Friday, November 5, 2010

جسر إلى الذاكرة



قبل ساعات قليلة من كتابة هذه الكلمات كنت جالسا في إحدى المحطات أنتظر الباص, النعاس يملأ عيني رغم أنه ليس وقت  النوم بالنسبة لي, تمر اللحظات وأنا أنتظر, وما أصعب الإنتظار, ليس فقط إنتظار الباص أو القطار, بل الأصعب إنتظار ماتخبأه لنا الأقدار, وتتراكم في عقلي الأفكار لتصبح ذكرى قد أحبها في يوم من الأيام

 ماهي إلا لحظات حتى وصل الباص وصعدت إلى حيث أريد, إلى الطابق الثاني من الباص, لأضع رأسي على الزجاج وأترك لعيني حرية التنقل بين الشوارع الممتلئة بأوراق الأشجار المتساقطة في خريف لندن المتقلب, كل ماكنت أفكر فيه هو البيت ومتى أصل إليه, لاشئ غير ذلك

: سأتوقف هنا عن إكمال قصتي لبعض الوقت لأكتب بعض الكلمات, ومن ثم سأعود لأكمل أحداثها

*************

قيل أن تسمية الإنسان أشتقت من النسيان, كون النسيان جزء لايتجزأ من اللإنسان, فمن منا لاينسى مهما تذكر, قد تختلف درجات النسيان من شخص لآخر, وسرعته أيضا

قد يرى البعض أن في النسيان شكل من أشكال الراحة خاصة إذا كان الشئ المرجو نسيانه غير مرغوب, وقد يرى البعض أن النسيان في حد ذاته هما يزيد الطين بلة خصوصا ماإذا كان مرضا ويصعب علاجه, فلا غنى للمرء عن التذكرخصوصا مايحب

لكن هل الذاكرة مصدر إزعاج وألم وشقاء, أم هي مبعث للسعادة والراحة ؟
لاأعرف من أين أبدأ... وأين أنتهي ... حينما يتعلق الأمر بالذكريات, بحلوها ومرها , بلحظات مرت بسرعة وأخرى مرت ببطء شديد, لكن يبقى لكليهما في الذاكرة مكان

أعتدنا أن نحس بلحظات الألم تمر بطيئا أما السعادة فلا نكاد نتذوقها حتى تختفي بلمح البصر, فهل هذا من نسج خيالنا وما الواقع الا عكس ذلك وأن كلا اللحظات تتشارك نفس الزمن, غير أن عدم صبرنا على مالا نحب هو مايدفعنا لذلك الأحساس بعدم المساواة ؟

لكن الجمبل في الأمر أ ن الذاكرة تختزل الوقت كما تشاء, فتصبح كل اللحظات التي عشناها حلوها ومرها عندنا متساوية في الزمن, فالذكرى فقط هي كل ما يتبقى, عنوان فقط وبعض التفاصيل, لم يعد الزمن مهما هنا

والأجمل من ذلك أن الذاكرة قد تحول بعض الذكريات التي كانت صعبه في وقتها إلى مجرد ذكرى قد نحبها في يوم من الأيام لتذكرنا بما كنا فيه وما أصبحنا عليه, وكيف أن العمر ينقضي بسرعة ومانتركه خلفنا من ثواني ودقائق وساعات وأيام وأسابيع وشهور وفصول وسنين وعقود .... ماأكثرها من أزمنه ..... ولكن مهما كثرث وتعددت أسماؤها, فإنها ستتساوى في الذاكرة جميعا فتصبح السنة كالثانية  والدهر كالدقيقة

فمن منا لا يتذكر لحظات من طفولته أو صباه, لحظات مرت عليه كان فيها سعيدا وأخرى مرت عليه بحزن, لكن مالايبقى من تلك الذكريات هو زمنها فإن سألتني عن يوم تلقي خبر سعيد ما, كيف كان شعوري؟

فسأجيبك بدون تردد ولكن إن سئلت في أي يوم أو ساعة فهنا تصبح الإجابة صعبة, صعبة ولكن ليست مستحيلة, فلم يعد المهم الزمن قدر ما تهم اللحظة
الذكرى مثل الماء لايستطيع المرء العيش دون أن يشرب وكذلك الذكرى فلا يستمر العيش دون أن نتذكر, فالذاكرة مثل خزان الماء, قد يحتوي الخزان ماء عذبا أو ماءا أجاجا, فكذلك الذاكرة, قد تحتوي ذكريات حلوة وأخرى مرة, ومثل مافي الماء من رواسب وعوالق غير مرغوب فيها, فذلك أيضا في الذكريات, أمور نتمنى لو لم تكن موجودة ولحظات نتمنى لو لم تمر بنا, لكن لامفر من الأمر فلا خيار في الحياة إلا عيشها بكافة تفاصيلها

قيل أنه : إذا كانت لك ذاكرة قوية ... و ذكريات مريرة... فأنت أشقى أهل الأرض

ففي نظري أن الإنسان لاينسى كل شئ ولكن يتناسى, خصوصا ماإذا كانت الذكريات مرة, وقد حفرت لها مكانا في الذاكرة لا تمحوه عوامل الزمن, ففي هذه الحالة لاينفع إلا التناسي

*************

 : وهنا نعود من حيث بدأنا القصة, من الباص , مع استمرار موضوع الذاكرة




كنت جالسا لوحدي دون أن يكون إلى جانبي أحد, وكان المقعد الملاصق فارغا فوضعت فيه أوراقا كنت أحملها, وعدت لأتكئ برأسي على الزجاج من جديد, كنت متعبا اليوم فلم تطق جفوني البعد, فأغمضت عيناي لكن دون أن أنام, بقيت مستيقضا ولكن عقلي كان في سبات من التفكير, توقف الباص في عدة محطات لينزل من أنهى رحلته, وليصعد آخر سيبدأ رحلته أيضا, لم يكن الأمر يعنيني لأن محطتي لاتزال بعيدة وقد بدأت الرحلة لتوي, فكنت مستمر في غفوتي, إلى أن سمعت أحدهم يخاطبني بكل لطف بأن أبعد أوراقي لأنه يريد الجلوس ولأن الباص كان قد إمتلأ

كان شخص عادي مثل باقي البشر, شاب في نهاية عقده الثاني جلس وبكل هدؤ بدأ يستخدم هاتفه, يتصفحه أو يلعب به أو حتى يرسل رسالة لاأدري, فقد عدت لما كنت عليه قبل أن يأتي, وما هي إلا لحظات قليلة حتى بدأ هاتفه يرن,,,, خلال رحلتي رنت عدت هواتف وتكلم العديد من الناس فلم أكن أبالي, لكن هنا تغير الأمر ليس لأنه أزعجني بقربه مني وقرب هاتفه من أذني
لكن الغريب في الأمر أني بدأت أتبسم لسماع رنة هاتفه حتى قبل أن أفتح عيني, لماذا هذا الشخص في هذه اللحظة في هذا الكرسي بالتحديد وهذا الزمن بالذات والأهم من ذلك هو نغمة الهاتف

قد تختلف النغمات بإختلاف الأشخاص وهناك الألاف من النغمات ان لم يكن الملايين, ولكن هذه النغمة بالذات فتحت في عقلي حجرة من حجرات الذاكرة وسافرت بي إلى زمن آخر من الماضي دون الحاجة إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول, عادت بي سنين إلى الوراء, ليست ببعيدة ولكن جزء من الذكريات التي مضت, لم تكن تلك النغمة هي الهدف بل كانت مجرد جسرأوصلني إلى تلك الذكريات, كانت تلك النغمة نفس نغمة صديق لي كنت أسمعها منه كلما رن هاتفه لكنها ماكانت تهمني في يوم من الأيام فهي مجرد نغمة, صحيح أنها مميزة وغير متداولة ولكن كانت مجرد نغمة, لم أسمع هذه النغمة منذ سنين حتى سمعتها اليوم, فلكم أن تتخيلوا ذلك ,,, يعود بي التفكير إلى ذلك الزمن وذلك الصديق, وهنا أغلق عيناي من جديد ولكن لأترك غفوتي وأفتح باب الذكريات الذي كانت رنة الهاتف مفتاحه, ولأترك مقعدي في الحافلة وجاري في المقعد, لأسافر إلى ليبيا من جديد في مخيلتي وأترك جسدي في باص لندن وحيدا

*************
تذكرت العديد من الذكريات والأصدقاء بمجرد سماع تلك الرنة, ذكريات بحلوها ومرها مرت في عقلي, أحداث غيرت الكثير في نفسي, ورسمت جزءا من حياتي التي أعيش اليوم, فلا مفر من الماضي, فالماضي كان حاضرا في وقته واليوم كان مستقبلا حينها وكان غيبا لاأدريه ولايدريه غيري ممن كان معي في ذلك الزمان والمكان, مستقبل لايعلمه إلا الخالق وحده عز في علاه
تلك اللحظات كانت في وقتها مزيج من السعادة والشقاء, ومن الصحبة والإخاء والإختلاف في بعض الأحيان والإتفاق في كثير منها, لحظات كنت فيها مع أناس لم أعد أراهم اليوم فمنهم من أستمر في نفس المكان وآخر تزوج وأختلفت ظروف الحياة لديه وأصبحت لديه مسؤليات وأهداف وطموحات تختلف بعض الشئ عن آخر سافر في سبيل لقمة العيش أو التعلم في مكان آخر, وبين شخص رابع كان بيننا كجزء من ذلك الماضي وكان يحلم ويخطط للمستقبل الذي أصبح حاضرا اليوم, لكن مالم يعرفه هو ولا نحن أنه كان مقرر له ألا يتجاوز ذلك الماضي, لتنتهي به الطريق هناك وينظم لمن إنتهت أحلامهم قبله وسيأتي يوم علينا سنتوقف لنلحق بهم

 وحتى ذلك الوقت سنكمل نحن المسيرإلى المستقبل الذي سيمسي من الماضي ولو بعد حين, وتبقى أحلامنا وطموحاتنا نحملها في صدورنا قبل عقولنا لنمضي بها, ويشاركنا في هذه الرحلة أصدقاء وأحباب منهم من نعرفهم الآن ومنهم من سيأتي يوم نتعرف عليهم لينضموا إلينا ويشكلوا معنا لحظات ستغدو في يوما ما كذكريات جميلة بإذن الله

: قيل أن أيام الدهر ثلاثة

يوم مضى لا يعود اليك ويوم أنت فيه لا يدوم عليك ، ويوم مستقبل لاتدري ماحاله ولا تعرف من أهله

*************

تلك الذكريات قد تعود إلينا مع مجرد رنه هاتف نسمعه في يوم ما, أو رائحة عطر نشمه على أحد الأصدقاء فنشتمه من جديد فيذكرنا بشخص ما أو مكان ما, وقد تكون صورة أو أغنية أو مجرد كلمة تذكرنا بموقف معين وذكرى معينة أو مكان ما .... قد يكون البيت أو الكلية والأصدقاء أو مكان العمل.... قد تأخذنا للوطن دون أن نشعر أو قد تسافر بنا إلى دول قد زرناها ولحظات قد عشناها سابقا

نردد أحيانا أن أيام زمان كانت أفضل من هذه الأيام وأن الحياة كانت أسهل وأفضل مقارنة بهذه الأيام رغم توفر الكثير من الكماليات التي لم نكن نحلم بها وقتها بل وأصبح بعضها أساسي, ومع هذا لازلنا نحن إلي الماضي وذكرياته, رمضان في الماضي والمدارس في الماضي وحتى التلفزيون وبرامجه القديمة, كلها ذكريات نحن إليها غالبا, لكن هل سنحن في المستقبل لهذه الأيام التي نعيشها حاليا وتصبح ذكرى جميلة... لو كان الأمر كذلك

فلماذا لانستمتع بها بكل تفاصيلها ونتوقف عن مقارنتها بسابقاتها.... ونجعل أملنا بالله العلي القدير أن يكون القادم مثل الحاضر بل وأفضل منه


ويبقى السؤال : هل الذاكرة صديق أم عدو؟



سلام